عدد المساهمات : 251 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 19/05/2010 العمر : 39
موضوع: علاج الهموم السبت سبتمبر 18, 2010 9:19 am
علاج الهموم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على هديه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد..
فإن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار اللأواء والشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" ، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاماً " وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى : " لقد خلقنا الإنسان في كبد ". فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل ، مغموم في الحال.
والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم.
والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين : قلب هو عرش الرحمن ، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم . من فوائد ابن القيم.
والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات.
فمن الهموم هموم سامية ، ذات دلالات طيبة ، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصا إذا استعصت المسألة واستغلقت ، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعيته وهذا مما أقلق العمرين وغيرهما فكان الأول يجهّز الجيش في الصلاة وهو معذور في ذلك ويحمل همّ الدواب أن تعثر بأرض العراق ، والثاني كان يعبّر عما يعانيه بقوله : إني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحقّ غيره.سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص : 37
وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين كان الهمّ أعظم ولذلك لما أوكل إلى عبد الرحمن بن عوف اختيار خليفة المسلمين بعد عمر لم يكتحل بنوم ليشاور المسلمين حتى العجائز البخاري الفتح 7207.
ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحمل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهم المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض..
ومن الهموم ما يكون ناشئاً عن المعاصي ، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دماً حراماً، أو هم الزانية بحملها.
ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر :
وظلم ذوى القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا ، كالأمراض المزمنة والخطيرة ، وعقوق الأبناء وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج.
ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل وما يخبئه الزمان كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم .
وهكذا تتنوع الغموم والهموم، وفيما يلي شيء من البيان والتفصيل :
ومنها الهم للرؤيا يراها المرء، وقد وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ البخارى : الفتح رقم 4375
وفي الشريعة علاجات للهمّ الحاصل بسبب المنامات والأحلام المقلقة. ومنها التفل عن الشمال ثلاثاً والاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثاً والاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثاً وأن يغير الجنب الذي كان نائماً عليه أو يقوم يصلي ولا يحدّث برؤياه تلك أحداً من الناس
وبعد هذا العرض لطائفة من أنواع هموم الدنيا فقد آن الأوان للحديث عن العلاج.
ولا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فترى كثيراً من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم ملئت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلاً عن الضعفاء ، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون.
أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة :
أولاً : التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون "
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فيتلقون النّعم والمسارّ بقبول لها، وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه ، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد ، فيحصّلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ، والتجارب المفيدة ، وقوة النفس ، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله : عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ رواه مسلم في صحيحه رقم 2999
وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، ومن ذلك :
ثانياً : النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة ، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ رواه البخاري الفتح 5642
وفي رواية مسلم : (مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ) صحيح مسلم رقم 2573
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهمّ لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلم المسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء.
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصاً إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه عَبْد اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَ يُلاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَهْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ وَجَاءَنَا بِالإِسْلامِ فَوَلَّى الرَّجُلُ فَأَصَابَ وَجْهَهُ الْحَائِطُ فَشَجَّهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ رواه أحمد رحمه الله المسند 4/87 والحاكم في المستدرك 1/349 وفي إسناده الحسن عن عبد الله بن مغفل والحسن مدلس وقد عنعن ولكن روى صالح بن أحمد ببن حنبل قال : قال أبي : سمع الحسن من أنس بن مالك ومن ابن مغفل - يعني عبد الله بن مغفل - : كتاب المراسيل لابن أبي حاتم ص: 45 باب ما يثبت للحسن البصري سماعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي رحمه الله : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان، وإن كان مما قد ثبت لقيُّه فيه لفلان المعين لأن الحسن معروف بالتدليس ويدلّس عن الضعفاء فيبقى في النفس من ذلك.. السير 4/588
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه ) رواه الترمذي السنن رقم 2396 وهو في صحيح الجامع رقم 308
ثالثاً : معرفة حقيقة الدنيا
فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ رواه مسلم رقم 2956
وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ رواه البخاري : الفتح رقم 6512
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهوّن عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا.
وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، والله إذا أحب عبداً ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ رواه الترمذي وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، السنن : رقم 2398 وهو في صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 1956
خامساً : أن يجعل العبد الآخرة همه
لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ رواه الترمذي رقم 2389 وصححه الألباني في صحيح الجامع 6510
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين). الفوائد ط. دار البيان ص: 159
سادساً : علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم : (أكثروا ذكر هادم اللذات : الموت فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيَّقها عليه) رواه البزار عن أنس وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 1211 وصححه كذلك في إرواء الغليل رقم 682
سابعاً : دعاء الله تعالى
وهذا نافع جداً ومنه ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعاً إليه بأن يعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيراً يقول اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) رواه البخاري الفتح رقم 2893
وهذا الدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه والدفع أسهل من الرفع.
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو به عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ رواه مسلم رقم 2720.
فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طُرق بابه وسُئل أعطى وأجاب.. يقول جلّ وعلا : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " .
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج : الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي صلى الله عليه وسلم كلّ من سمعه أن يتعلّمه ويحفظه :
هذا الحديث العظيم الذي يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله وأنه لا غنى له عنه وليس له سيد سواه والتزام بعبوديته وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه ، وأن الله يصرّفه ويتحكّم فيه كيف يشاء وإذعان لحكم الله ورضى بقضائه وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة ثم سؤال المطلوب ونشدان المرغوب
وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ رواه البخاري، الفتح رقم 6346
وعن أنس رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال : (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) الترمذي رقم 3524 وحسنه في صحيح الجامع 4653
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. رواه أبو داود كتاب الصلاة : باب في الاستغفار، وهو في صحيح الجامع 2620
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :.. دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ.. رواه أبوداود في كتاب الأدب رقم 5090.وحسنه في صحيح الجامع 3388 وفي صحيح سنن أبي داود رقم 4246.
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له ، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
" فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد وأقدر على جلبها وتحصيلها منه وأنصح للعبد لنفسه وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر، فألقى نفسه بين يديه وسلم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر. له التصرف في عبده بما شاء ، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه ، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات. وحمل كل حوائجه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها. فتولاها دونه وأراه لطفه وبره ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب ، ولا اهتمام منه، لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحده همه. فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه ، وفرغ قلبه منها ، فما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه.
وأما من أبى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب، وكسف البال وسوء الحال ، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل ، ولا راحة يفوز بها ، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حيل بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه . فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد. الفوائد لابن القيم ص : 209
" ومتى اعتمد القلب على الله ، وتوكل عليه ، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة ، ووثق بالله وطمع في فضله ، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم ، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية ، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه ، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب ، الدافعة لقلقه ، قال تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه .
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام ، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له ، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده ، فيزول همه وقلقه ، ويتبدل عسره يسرا ، وترحه فرحا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير. " الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
عاشراً : ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر ، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل ، وعن الحزن على الوقت الماضي
ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل ، فيكون العبد ابن يومه ، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر ، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن والنبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل ، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا ، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ رواه مسلم 2664. فجمع صلى الله عليه وسلم بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة ، ومشاهدة قضاء الله وقدره وجعل الأمور قسمين : قسماً يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه ، أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسماً لا يمكن فيه ذلك ، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم ، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم. الوسائل المفيدة للحياة السعيدة : ابن سعدي
والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال ، وأن ذلك حمق وجنون ، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله ، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما